حين تتحول الكفاءة الفنية إلى عبء قيادي
من مفارقات الواقع الإداري اليوم أن أكثر القطاعات حاجةً للتجديد، هي نفسها الأكثر وقوعًا في أخطاء التعيين المبكر.
وأسوأ هذه الأخطاء: الاعتقاد بأن التفوق الفني كافٍ ليصبح صاحبه قائدًا.
لا يُبنى القرار على نضج سلوكي، ولا على قدرة على قيادة بشر، ولا على سجل إداري يثبت حسن التقدير. بل يُمنح المنصب لمجرد أن صاحبه مميز “في تخصصه”.
وهنا يبدأ الانحدار بصمت.
فالخبرة الفنية، مهما بلغت، لا تعني بالضرورة الفهم العميق للمنظومة. ومن يملك مهارة في التنفيذ لا يكتسب تلقائيًا القدرة على البناء أو القيادة.
لكن بعض المنظومات — للأسف — تخلط بين الإتقان المهني وبين الأهلية القيادية، وتُنتج بذلك نموذجًا إداريًا هشًا… لكنه يملك ثقةً لا يستحقها.
يظهر هذا الخلل أولًا في طريقة اتخاذ القرار: بطيء، معزول، غير قادر على جمع الآراء أو قراءة السياق. ثم ينتقل الخلل إلى الثقافة الداخلية، حيث تُقمع الكفاءات، وتُدار الفرق وكأنها ملفات، ويُكافأ من يُجيد المجاملة على من يُنتج فعليًا.
وحينها تبدأ الهجرة الصامتة.
المميزون لا يشتكون. بل ينتظرون بصبر انتهاء التزاماتهم، ثم يغادرون. بعضهم يغتنم أول فرصة، وآخرون يغادرون دون فرصة على الإطلاق.
يغادرون ليس لأنهم لا يملكون الولاء، بل لأن المنظومة لم تكن جديرة بولائهم من الأساس.
وحين تُترك مسؤولية الاختيار بيد من وصل بالصدفة أو بالمجاملة، فهو — بطبيعته — لا يرى الكفاءة تهديدًا فحسب، بل يسارع لإقصائها أو إغراقها في تفاصيل تافهة.
لقد شهدنا — في تجارب عشناها عن قُرب — كيف تتحول الفرص الكبرى إلى عبء، فقط لأن أول قرار كان خاطئًا… وتُرك ليستنسخ ذاته.
القيادة ليست مكافأة لمن يتقن التفاصيل، بل تكليف لمن يقرأ الصورة الكاملة.
ومن لا يفرّق بين المهارة الفنية والحكمة الإدارية، فالأجدر أن لا يُمنح صلاحية الاختيار أصلًا.
فمن يختار؟
ومن يقيّم؟
ومن بقي أصلًا ليُجيب… بعدما غادر الأكفاء بصمت؟

